في المجتمعات النامية، حيث تتقاطع الفجوات الاقتصادية مع غياب العدالة الاجتماعية، شكّلت منهجية التأهيل المرتكز على المجتمع (CBR) استجابة تنموية وإنسانية حقوقية فعالة. في مصر، وعلى مدار أكثر من 35 عامًا، لم تكن هذه المنهجية مجرد “برنامج”، بل حركة مجتمعية دامجة، استطاعت أن تُغيّر نظرة المجتمع للإعاقة، وتبني نماذج تنموية مستدامة منخفضة التكلفة، تقودها المجتمعات من الداخل.
شخصيًا، كانت تجربتي مع CBR نقطة تحول في فهمي لدور الأشخاص ذوي الإعاقة في التنمية، ورافعة أساسية لتكويني كناشط وحقوقي على المستويين الوطني والإقليمي.
CBR: من المفهوم إلى التطبيق المحلي
تقوم منهجية CBR على دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في كل مجالات الحياة، من خلال العمل في البيئات المحلية بالاعتماد على الإمكانات المتاحة. يشمل النموذج خمسة محاور رئيسية: الصحة، التعليم، سبل العيش، التمكين الاجتماعي، والتمكين الذاتي.
في مصر، تطورت هذه المنهجية من إطار تقني مستورد إلى نموذج “تمصير” عملي، يراعي الثقافة والعادات، ويبني على الطاقات الكامنة في المجتمعات، خاصة في القرى والنجوع، حيث تكون الحاجة أكبر للدعم والتغيير.
تطور تطبيق CBR في مصر: ثلاث مراحل رئيسية
🔸 1. المرحلة التأسيسية (منتصف الثمانينيات – منتصف التسعينيات)
انطلقت أولى المبادرات في محافظات مثل الفيوم وسوهاج والمنيا، من خلال منظمات دولية مثل هانديكاب إنترناشيونال بالتعاون مع جمعيات محلية. كانت المرحلة تركز على بناء وعي أولي وتدريب الكوادر المجتمعية، في ظل بيئة تشريعية وخدمية محدودة.
🔸 2. مرحلة النضج والتوسع (منتصف التسعينيات – 2010)
شهدت هذه المرحلة تحولات نوعية:
- إدماج نهج CBR في خطط بعض الوزارات (مثل الشؤون الاجتماعية والصحة).
- شراكات متقدمة مع هيئات مثل منظمة الصحة العالمية (WHO)، وCBM، واليونيسف.
- تكوين شبكات محلية من خريجي برامج CBR شكلوا نواة لحركة تغيير واسعة.
🔸 3. المرحلة المعاصرة (2011 – اليوم)
مع صدور قانون الأشخاص ذوي الإعاقة عام 2018، تم الاعتراف بحقوق الإدماج بشكل رسمي. لكن الأهم كان استمرار النشاط المجتمعي المستقل، الذي حافظ على روح CBR رغم التحديات الاقتصادية والسياسية.
من التجربة إلى التأثير: نموذج “وصول” مع جمعية كيان
ضمن هذه المسيرة، أتيحت لي فرصة تنسيق وتنفيذ برنامج “وصول“ مع جمعية كيان في أربع محافظات في صعيد مصر: المنيا، سوهاج، قنا، وأسيوط. البرنامج لم يقتصر على تحسين الخدمات، بل:
- كوّن لجان محلية يقودها أشخاص ذوو إعاقة.
- أطلق مبادرات تعليمية دامجة.
- دعم سبل العيش عبر مشروعات صغيرة تستجيب للسياق المحلي.
الميزة الأكبر أن التكلفة كانت محدودة، بينما الأثر كان ملموسًا: قبول اجتماعي أكبر، قيادات محلية جديدة من داخل المجتمعات، وأصوات تُطالب بحقوقها بشكل واعٍ ومسؤول.
بناء الحركة: من الشبكة المصرية إلى الشبكة الإفريقية
في عام 2014، توليت قيادة الشبكة المصرية للتأهيل المرتكز على المجتمع، التي جمعت خبرات الممارسين والمنظمات القاعدية في إطار تشاركي يهدف لتوحيد الجهود، وتبادل الخبرات، والضغط من أجل سياسات أكثر شمولًا.
ثم انتقلت التجربة إلى الإطار الإقليمي من خلال رئاستي للشبكة الإفريقية للتأهيل المرتكز على المجتمع، حيث نسعى اليوم إلى:
- بناء استراتيجية قارية مشتركة.
- دعم القدرات في بلدان إفريقية ذات سياقات مشابهة لمصر.
- توثيق وتدويل التجربة المصرية كنموذج تطبيقي مرن وقابل للتكييف.
لماذا CBR خيار استراتيجي في الدول النامية؟
- منخفض التكاليف: لا يتطلب بنية تحتية ضخمة، بل يُبنى على الموارد المحلية.
- مرن وقابل للتكييف: يمكن مواءمته مع الثقافات المحلية دون فقدان جوهره الحقوقي.
- يعزز الملكية المحلية: يمنح المجتمعات القدرة على قيادة التغيير من الداخل.
- يخلق استدامة: المبادرات التي ولدت في ظل CBR غالبًا ما تستمر حتى بعد توقف التمويل.
الخاتمة:
التأهيل المرتكز على المجتمع ليس مجرد “برنامج”، بل رؤية تنموية شاملة. وما حدث في مصر يبرهن أن التمكين يبدأ من أصغر القرى وأقل الموارد، إذا ما وُجدت الإرادة، والشراكة، والفهم الحقيقي لمعنى الإدماج.
أدعو هنا الحكومات، والمنظمات الدولية، وصنّاع السياسات، إلى إعادة النظر في CBR كأداة مركزية لتحقيق أجندة التنمية المستدامة، خاصة الهدف 10 (الحد من أوجه عدم المساواة)، والهدف 17 (عقد الشراكات).