كيف نعرف أن برامج الدمج تُحدث فرقًا حقيقيًا؟

ما لا يمكن قياسه… لا يمكن تحسينه

أحد أكبر التحديات التي واجهتها في قيادتي لمبادرات وبرامج إدماجية في مصر وإفريقيا هو:
كيف نُقيّم النجاح؟ وما المؤشرات التي تعكس الإدماج الفعلي لا الشكلي؟

، لا يكفي أن نضع سياسات جميلة أو ننفذ أنشطة ميدانية؛ بل يجب أن نتمكن من قياس الأثر العميق والمستدام لهذه التدخلات على حياة الأفراد والمجتمعات، وعلى البنية المؤسسية والثقافية التي تحيط بهم.

لكن قياس أثر البرامج الدامجة لا يشبه قياس نتائج المشاريع التقليدية. فنحن لا نتعامل مع أرقام فقط، بل مع تحولات في الإدراك والمشاركة والكرامة. إن الدمج عملية معقدة بطبيعتها، لأنه لا يقتصر على تقديم الخدمة، بل يُغيّر النظام الذي كان سببًا في التهميش من البداية.

أحد أوضح التحديات التي واجهتها على مدى أكثر من عقدين من قيادة البرامج والمبادرات في مصر وإفريقيا، هو أن المنظمات كثيرًا ما تقع في فخ الاكتفاء بقياس “ما فعلناه”، بدلاً من قياس “ما تغيّر فعليًا نتيجة لما فعلناه”. كم من تقارير قرأناها تتحدث عن أعداد ورش التوعية وعدد الحضور، لكنها لم تخبرنا ما إذا كانت نظرة المجتمع للإعاقة قد تحولت، أو ما إذا كان شاب من ذوي الإعاقة أصبح عضوًا فاعلًا في مجلس محلي بعد هذه الورش.

في تجربتي مع برنامج “وصول” الذي نُفّذ في أربع محافظات بصعيد مصر بالتعاون مع جمعية كيان، لم تكن غايتنا فقط أن نوسّع دائرة الخدمات أو نحسّن ظروف الوصول، بل أن نقيس أثر ذلك على قدرة الأشخاص ذوي الإعاقة على اتخاذ القرار والمشاركة وتغيير واقعهم بأنفسهم. وهنا بدأنا نُدرك أن أدوات القياس التقليدية لا تكفي، وأننا بحاجة إلى مؤشرات تلتقط التفاصيل التي يصعب حصرها في الأرقام المجردة.

فقد بات واضحًا أن قياس الأثر في البرامج الدامجة لا بد أن يشمل عدة مستويات مترابطة.
فمثلًا، هل أصبح الوصول إلى المدرسة أو المركز الصحي ممكنًا فعليًا؟ هذا سؤال تقني، لكنه لا يكتمل ما لم يُسأل إلى جانبه: هل يشعر الشخص ذو الإعاقة بالترحيب في هذا المكان؟ هل يُعامل باحترام؟ هل يُؤخذ رأيه في تصميم الخدمات؟
إن الفرق بين “الوصول” و”المشاركة” هو ما يُميّز بين الإدماج الشكلي والدمج الجوهري.

كذلك، فإن التغيير في المواقف يُعد من أكثر مؤشرات الدمج حساسية وعمقًا. في إحدى القرى بمحافظة أسيوط في جنوب مصر، أجرينا تقييمًا نوعيًا بعد مرور 18 شهرًا على تنفيذ تدخلات قائمة على التأهيل المجتمعي. ورغم أن البنية التحتية لم تكن قد تغيّرت جذريًا، فإننا لاحظنا تحولًا كبيرًا في لغة الحديث عن الإعاقة داخل المجتمع، وظهور مبادرات يقودها شباب من ذوي الإعاقة بأنفسهم. ذلك لم يكن ليتحقق لولا استثمارنا في أدوات تقييم تُصغي للناس، وتُفسح المجال لقصصهم أن تُقال.

كما أن التمكين الاقتصادي، بوصفه أحد أعمدة الدمج، يتطلب منهجية قياس لا تكتفي بإحصاء عدد المشاريع، بل تبحث في مدى استدامتها، وفي التغير الذي أحدثته في حياة أصحابها من حيث الاستقلال والكرامة الاجتماعية. وهنا نكتشف أن مؤشرات مثل “الدخل الشهري” ليست كافية إذا لم تُرفَق بسؤال: هل أصبح الشخص شريكًا في اتخاذ القرار داخل أسرته؟ هل يشعر بأنه عنصر منتج وفاعل في مجتمعه؟

ولا يمكن إغفال بُعد السياسات. في البرامج الدامجة الناجحة، لا نكتفي بالتأثير على الأفراد بل نطمح إلى التأثير على السياسات العامة. وقد لمست ذلك خلال عملي مع الشبكة المصرية للتأهيل المرتكز على المجتمع، حيث ساهمت جهودنا التراكمية في إدراج قضايا الإعاقة ضمن خطط التنمية المحلية، وفي صياغة مذكرات سياسية ساعدت في تطوير اللوائح التنظيمية لبعض الخدمات الحكومية.

ما أريد أن أؤكد عليه هو أن قياس الأثر في برامج الإدماج يجب أن يكون بحد ذاته عملية دامجة. أي أن تُنفّذ بطريقة تشاركية، تُشرك المستفيدين أنفسهم في تصميم أدوات القياس، وتنظر إليهم ليس فقط كمصادر للمعلومة، بل كمحللين ومعبرين عن واقعهم. فبهذا فقط نضمن أن أدوات التقييم لا تُعيد إنتاج الفجوة بين الخبير والمجتمع، بل تُعيد توزيع السلطة والمعرفة. ختامًا، إذا أردنا أن نرتقي ببرامج الدمج من مجرد استجابات إنسانية إلى أدوات تغيير بنيوي، فعلينا أن نستثمر في أدوات تقييم تُنصت جيدًا، تقيس بعمق، وتُنضج السياسات والممارسات. فالأثر ليس ما نفعله، بل ما يبقى ويتطور وينتقل بعد أن نرحل

د. أيمن الطنطاوي

خبير دولي في التنمية والدمج | رئيس الشبكة الإفريقية للتأهيل المرتكز على المجتمع

كيف نصنع سياسات دامجة تنطلق من المجتمعات المحلية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سلة التسوق الخاصة بي
شوهدت مؤخرا
فئات
This site is registered on wpml.org as a development site. Switch to a production site key to remove this banner.