في عالم التنمية، كثيرًا ما نسمع مصطلحات مثل “الدمج”، “الشمول”، أو “عدم ترك أحد خلف الركب”. لكنها في كثير من الأحيان تبقى كلمات أنيقة على الورق، ما لم تُترجم إلى أدوات واقعية قابلة للتطبيق.
الإدماج الفعّال لا يحدث تلقائيًا. إنه عملية متعددة المستويات، تتطلب أدوات منهجية تُراعي السياق، وتُشرك المجتمعات، وتُصاغ من أسفل إلى أعلى (bottom-up). هذه بعض من الأدوات التي أثبتت جدواها عبر أكثر من عقدين من العمل في مصر والمنطقة العربية وإفريقيا
الإدماج، بمعناه الحقيقي، لا يتحقق بقرارٍ فوقي أو نصٍ قانوني فقط، بل ينبثق من سياقات الحياة اليومية للمواطنين. من هنا، فإن بناء سياسات دامجة وفعّالة يستوجب أدوات عملية، تتناغم مع ثقافة المجتمع، وتُبنى بمشاركة مَن الإقصاء لسنوات طويلة.
من المفهوم إلى الممارسة: الإدماج كأداة تغيير لا شعار
طوال أكثر من عشرين عامًا من عملي في مصر والمنطقة العربية وإفريقيا، رأيت عن كثب كيف يمكن أن يُولد التغيير حين تُصاغ السياسات من أسفل إلى أعلى، وتنطلق من احتياجات حقيقية يعبر عنها أصحاب الشأن أنفسهم. الدمج ليس مجرد امتثال لاتفاقيات دولية، بل عملية اجتماعية عميقة تبدأ من الاعتراف، وتُبنى بالشراكة، وتُفعّل بالأدوات.
أدوات الدمج الفعّال: من الميدان إلى السياسات
🔹 1. المسح المجتمعي التشاركي
أداة جوهرية تبدأ بها كل مبادرة دامجة ناجحة. لا تقتصر على جمع البيانات، بل تُحوّل الأشخاص ذوي الإعاقة إلى “مُنتجي معرفة”.
حين يقودون بأنفسهم عمليات المسح والتحليل، فإنهم لا يُعرّفون فقط مشكلاتهم، بل يصيغون الحلول أيضًا.
في برامج مثل “وصول” – الذي أطلقناه عبر جمعية كيان في أربع محافظات في صعيد مصر – كان هذا النهج هو حجر الأساس في توجيه التدخلات وتحديد الأولويات.
🔹 2. لجان الإعاقة المحلية
بناء كيانات قاعدية تضم ممثلين عن الأشخاص ذوي الإعاقة، أسرهم، قيادات محلية، ومسؤولين حكوميين، هو خطوة هامة نحو نقل القرار إلى حيث يوجد الأثر.
هذه اللجان تمثل ميدانًا تشاركيًا حقيقيًا، وتتيح إنتاج حلول لا تفرضها السلطة، بل تصوغها المصلحة المجتمعية المشتركة.
🔹 3. دمج قضايا الإعاقة في الموازنات المحلية
لن تكون السياسات الدامجة فعالة بدون آليات تمويل واضحة ومستدامة.
في محافظات عدة، ساعدنا المجتمعات على إدراج بنود خاصة بالإتاحة، دعم التعليم الدامج، أو مشروعات التمكين الاقتصادي في خطط وموازنات المحليات.
هذا التكامل بين النهج الحقوقي والمنظور المالي هو ما يضمن انتقال السياسات من الورق إلى الواقع.
🔹 4. التمكين القانوني والحقوقي المجتمعي
إحدى أكثر الأدوات فاعلية هي الاستثمار في وعي المجتمعات المحلية بالحقوق القانونية.
عندما يصبح سكان القرية – وليس المحامي وحده – على دراية ببنود قانون الأشخاص ذوي الإعاقة، فإن الضغط من أجل التطبيق يتحول من عبء خارجي إلى حراك داخلي واعٍ ومؤثر.

🔹 5. آليات المراجعة والتقييم التشاركي
السياسات ليست نصوصًا جامدة. يجب أن تخضع للتقييم والتحسين المستمر.
من خلال أدوات مثل جلسات الاستماع المجتمعي، والتقييمات التي يقودها أصحاب الشأن أنفسهم، بالإضافة إلى قنوات التواصل الشفافة مع صانعي القرار يمكن قياس الأثر الحقيقي للسياسات وتوجيهها نحو مزيد من الفعالية والعدالة.
الخلاصة: الدمج عملية تبدأ من الشارع… لا من القانون فقط
الإدماج الفعّال يتطلب أدوات ميدانية تنقل “الحق” إلى ممارسة، و“السياسة” إلى شراكة حقيقية.
ومن تجربتي في بناء وقيادة برامج ومبادرات دامجة في مصر، وشبكات تأهيل مجتمعي إقليمية، أؤكد أن أفضل السياسات هي تلك التي كتبها الناس… بلغتهم، واحتياجاتهم، وسياقهم.
إن تمكين المجتمعات من إنتاج السياسات لا يقل أهمية عن تمكين الأفراد من الوصول إلى الخدمات.
ففي النهاية، الدمج هو عدالة، تُمارَس لا تُعلَن.
د. أيمن الطنطاوي
خبير دولي في التنمية والدمج | رئيس الشبكة الإفريقية للتأهيل المرتكز على المجتمع
